منهج الإسلام في محاربة الفساد

ما هو منهج الإسلام في محاربة الفساد ؟
لم يتوفر للبشرية منهج شامل للإصلاح على مدى تاريخها ، غير منهج الإصلاح الذي تم على أيدي المرسلين صلوات الله عليهم ، فهم وحدهم الذين حققوا أعظم إصلاح لسلوك الإنسان على مدى تاريخ البشرية كله ، ومحمد ﷺ هو آخر المرسلين ، وهو الرسول الوحيد الذي لا يزال المنهج الذي جاء به وهو القرآن الكريم محفوظاً دون تبديل أو تحويل أو تحريف. فمن هذا المنهج نعرف الطريق الصحيح الذي ينبغي أن تسير عليه كل دعوة إصلاح تريد الخير للناس ، باعتباره منهج حياة للإنسان ، منزل من الله خالق هذا الإنسان ، الأعلم بما يصلحه وما يفسده ، قال تعالى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [سورة الملك, آية: ١٤].
لقد جاء هذا المنهج شاملاً يتناول كل ما يحتاجه الإنسان ويساعده على القيام بمهمته في الحياة ، فاشتمل على العقيدة الصحيحة والتشريعات المحكمة ، والأخلاق الكريمة التي من شأنها القضاء على صور الفساد. ولذلك، كله كان منهج الإسلام في محاربة الفساد وحده هو القادر على تجفيف ينابيع الفساد ، فكيف حقق الإسلام ذلك ؟
إقرأ أيضاً : أسباب الفساد في القرآن.
منهج الإسلام في محاربة الفساد
تشمل أساليب الإسلام في القضاء على الفساد ما يلي:
-
أولاً : غرس الإيمان في نفوس الناس :
يقرر القرآن الكريم أن صلاح الإنسان فردا ومجتمعا ودولة إنما يبدأ من إصلاح ما بالأنفس ، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ﴾ [سورة الرعد, آية: ١١].
لقد كانت أعظم قضيتين تناولهما القرآن الكريم وأبانهما أعظم بيان هما قضيتي الإيمان بالله تعالى ، والإيمان باليوم الآخر ، وبإيمان الإنسان بهاتين القضيتين يكون الإسلام قد نجح في القضاء على أهم آثار غياب الإيمان وأشدها خطرا على المجتمعات وهو الشعور بقصر الحياة وما ينتج عنه من لهاث وراء متع الحياة مخافة أن يدرك الإنسان الموت قبل أن تتحقق مطامعه وأمانيه.
وقد استطاع الإسلام أن يوجه آمال الإنسان وطموحاته وآماله الوجهة الصحيحة حين قرر أن الحياة الحقيقية ليست هذه الحياة القصيرة المهددة بالانقضاء والزوال بين لحظة وأخرى. وإنما الحياة التي تستحق من المؤمنين الاهتمام هي الحياة الأخرى ؛ لأنها هي الحياة الدائمة بما أعد الله فيها لعباده من خير دائم ونعيم مقيم ، قال تعالى : ﴿وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [سورة العنكبوت, آية: ٦٤].
فلا يزيد الناس شعورهم بقصر الحياة إلا ورعاً وتقوى وابتعاداً عن اقتراف الجرائم وارتكاب المنكرات ، بدلاً من الانطلاق المسعور وراء اللذات والمتع وقضاء الشهوات.
وهكذا كان الإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر هو الحل الكامل والعلاج الشافي لهذه المعضلة التي تذكي حوافز الطمع ، ويترعرع في ظلها الفساد ؛ وينتشر بين الناس ، ولا عجب فهو دين الفطرة الذي تستقيم به الحياة الإنسانية.
-
ثانياً : الإسلام يهدي للتي هي أقوم :
إذا كان التوجيه الفاسد ينبوعاً مهماً من ينابيع الفساد ناتجاً عن نقص معلومات الإنسان بحقيقة النفس الإنسانية ودقائق التركيب العجيب للإنسان. فإن الإسلام يجفف هذا الينبوع بتوجيهنا حصراً إلى مصدر التوجيه الذي لا يشوبه نقص في العلم بحقيقة الإنسان ، أو انحراف في الطبع أو المزاج ويقول لنا : إن خالقكم أعلم بشئونكم ، وأدرى بما يصلح حالكم ، كما أنه قد أحاط علماً بما يفسد أمركم ، وهو بكم أعلم وأنتم لا تزالون في طور النشأة في الأرض أو في طور الأجنة في بطون أمهاتكم ، قال تعالى : ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ۖ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ﴾ [سورة النجم, آية: ٣٢]. وقال تعالى : ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [سورة الملك, آية: ١٤].
ويؤكد الإسلام للناس الحقيقة الواضحة وهي أن الذي يصنع شيئاً هو الذي يضع النظام الصحيح ليسير ذلك المصنوع ، كما أن المالك للشيء هو الذي يحق له وحده أن يأمره بما يشاء ، ويوجهه كما يريد ، قال تعالى: ﴿… أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [سورة الأعراف, آية: ٥٤].
وقد أثبتت وقائع التاريخ أنه لم تحقق أية حركة إصلاح شاملة قامت على يد زعيم أو قائد أو فيلسوف ما يساوي ربع ما حقق الأنبياء والمرسلون من إصلاح شامل في حياة الناس ، وذلك لسبب واحد هو أن الأنبياء والمرسلين يتلقون الهدى من الهادي العليم ، الذي لا يخطئ سبحانه.
كما يقدم التاريخ الإسلامي الدليل الملموس على الخير العميم الذي سعد في ظله الناس عندما كانت الصدارة لهدى الله في حياتهم ، ووجدت حضارة إسلامية مترامية الأطراف ضمت تحت جناحها مختلف البلدان والأجناس واللغات ، وأوجدت المحبة والأخوة والتعاون بين الناس.
-
ثالثاً : منهج الإسلام في علاج الأطماع الواسعة :
إذا كان كل سعي إنساني لا ينطلق إلا لتحقيق مصلحة أو دفع مضرة ، فقد جاء الإسلام ليؤكد أن أعظم خير ممكن أن يناله الإنسان هو رضا الله تعالى، والجنة التي أعدها الله للمتقين ، ليؤكد أن أعظم شر يمكن أن يصاب به الإنسان هو غضب الله ، وعذاب النار ، قال تعالى : ﴿فَأَمَّا مَن طَغَىٰ{٣٧} وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا{٣٨} فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ{٣٩} وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ{٤٠} فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ{٤١}﴾ [سورة النازعات].
وبهذه التربية الإلهية للإنسان وتبصيره بحقائق الوجود تصبح المصلحة العظمى في أن يعمل ما يرضي خالقه ليفوز بهذا النعيم الدائم ، وأن يحذر كل عمل من شأنه إغضاب خالقه ودخوله النار ، وبهذا تنزوي الأطماع والتكالب على الدنيا.
ومن أعظم ما يساعد الناس على النجاح في هذه الحياة إيمانهم بأن الإسلام قد جاء بمبادئ وتشريعات محكمة لتنظيم حياتهم ، ودعا إلى كل خلق فاضل فيه سعادتهم، وحذر من كل خلق سيئ يفسد حياتهم ، مما يجعلهم ينطلقون في الأرض يعملون بجد واجتهاد حسب إرشاد خالقهم وهديه ، قال تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [سورة الأنفال, آية: ٢٤].
فالمؤمن حين يتلقى دعوة الله له بالإنفاق يستجيب له موقنا بأنها دعوة لما فيه صلاح حياته وفلاحه فيها ، قال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ ۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [سورة التغابن, آية: ١٦]. وهكذا، يستقيم الأمر ؛ وينجح منهج الإسلام في محاربة الفساد وتجفيف منابعه ، فالناس يعملون ويجمعون الخيرات وهم حريصون ألا يكون في ذلك الجمع ضرر بأحد ، فإذا نالوا من الخير عادوا يقدمون جزءا منه إلى إخوانهم ممن استبدت بهم الحاجة ، أو ضاقت بهم سبل الرزق ، يدفعهم لذلك حبهم لإخوانهم المؤمنين ، وحرصهم على إرضاء ربهم ، وحرصهم على الفوز بما أعد الله لهم في الآخرة .
مع ذلك، فإن بقاء مجال ضيق للفساد يأتي من ضعاف الإيمان ، وعندئذ يتدخل القضاء الإسلامي العادل لإعادة الأمور إلى نصابها ، ليبقى الحب والأخوة والتعاون هي السمات البارزة في المجتمع المسلم ، كما يصفه الرسول ﷺ بقوله : ( مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) [ مسلم : كتاب البر والصلة والآداب, باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم, عن النعمان بن بشير رضي الله عنه].
ولقد وجد هذا المجتمع بالفعل ، وشهدت البشرية أعظم جيل وخير أمة أخرجت للناس ، فلم تعرف البشرية قوماً زهدوا في الدنيا ومتاعها وهم قادرون على جمعها غير الجيل الذي رباه محمد ﷺ . وإذا كان خلق الله لم يتغير ولم يتبدل فالإنسان هو الإنسان ، قال تعالى : ﴿لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [سورة الروم, آية: ٣٠].