حال العالم قبل البعثة
كان حال العالم قبل البعثة وقبیل بزوغ فجر الدعوة الإسلامية قد انحرف كثيراً عن المنهج الإلهي الذي ارتضاه الله للبشر، وأرسل به الرسل؛ فبلغ الفساد الأخلاقي والطغيان والظلم مدىً بعيداً في جميع جوانب الحياة : الدينية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية.
(أولاً) الحالة الدينية
قد يتساءل الكثير كيف كان حال العالم قبل البعثة من الناحية الدينيّة؟ كانت الحياة الدينية في العالم قبل البعثة وظهور الإسلام موزعة بين ديانات سماوية تمثلت في اليهودية والنصرانية، ووضعية وثنية صنمية متعددة. وإليكم بيان حال العالم قبل البعثة من الناحية الدينيّة.
- الديانة اليهودية
كانت الديانة اليهودية منتشرة في أوروبا وآسيا وأفريقيا، وهي الديانة التي جاء بها موسی علیه السلام، وقد أنزل الله إليه کتاباً هو «التوراة» ، هداية لبني إسرائيل، وكانت تلك الديانة قائمة على التوحيد ونبذ الشرك إلا أن طبيعة اليهودي المادية كانت تميل إلى تعدد الآلهة والتجسيم فَحَرَّفوا وبدلوا، مما أدى إلى كثرة الأنبياء فيهم لردهم إلى التوحيد.
ومن غرائب عقائدهم أنهم يزعمون أن الإله ليس معصوماً بل يخطئ، ويصفونه بالقسوة والتعصب ويزعمون أنه ليس إلهاً للعالمين ولكنه إله لليهود فقط، وعدو للآخرين. وهم يقدسون «عزیر» الذي وجد توراة موسی بعد أن ضاعت وأعاد بناء الهيكل، فادعو بأنه ابن الله كما حكى الله عنهم في قوله: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ…﴾[سورة التوبة,آية:٣٠]، وهم يعتقدون بأنهم شعب الله المختار وأنهم جزء من الله!!.
ومن هنا نرى أن الديانة السماوية التي جاء بها موسی علیه السلام قد جنى عليها اليهود حتى أضحت دیانة شكلية وأفرغت من محتواها الرباني وصيروها وسيلة لحب الذات وتمجيدها والاستهزاء والاستخفاف بتعاليم الأنبياء، ومناصبتهم العداء، بل وقتلهم إن اقتضى الأمر ذلك، وامتلأت قلوبهم بالحقد والكراهية لغيرهم من الأمم ؛ ولذلك لم يكونوا عاملاً إيجابياً في بناء الحضارات الإنسانية ؛ فكان وضعهم في العالم مضطرباً مما تسبب في عزلتهم ونفور شعوب العالم عنهم.
وبسبب عقيدتهم الفاسدة وعزلتهم عن العالم تراهم يسعون للوقيعة بين الأمم فحيثما توجد القوة يندسون في أركانها ويحركونها ضد خصومهم، فقد استطاعوا التأثير على ملك فارس والتعاون معه في التنكيل بالنصارى الخاضعين للامبراطورية الرومية وتخريب كنائسه م في الشام عامة وفلسطين والقدس بصورة خاصة.
وحرص اليهود على تحريف الدين ، فاندسوا في صفوف الفلاسفة يخربون ويحرفون ما جاء به الأنبياء، وعملوا على صرف الناس إلى الفلسفات، وخلطوا بين الفلسفة والدين حتى نسي الناس ما جاء به الأنبياء والرسل.
- الديانة النصرانية
تطلق كلمة “النصرانية” على الدين الذي جاء به نبي الله عيسى بن مريم عليه السلام وهي ديانة تقوم على توحيد الله وإفراده بالعبودية وتطبيق ما جاء في توراة موسی من شريعة، وهي تعد امتداداً لما جاء به موسی علیه السلام و مصححة لما طرأ على التوراة من تحریفات، وبياناً لما فيها. وكان «الإنجيل» – وهو الكتاب الذي أنزل علی عیسی ــ يدعو للالتزام الخلقي والأدبي بكل ما جاء في التوراة.
ولكن اليهود وقفوا للسيد المسيح بالمرصاد يكذبونه ويسفهونه ويطعنون في عرضه وفي شرف أمه العذراء البتول، ثم تآمروا على قتله، فأنجاه الله منهم قال تعالى: ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا{156} وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا{157} بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا{158}﴾ [سورة النساء].
وعندما انتشرت دعوته واتسع نطاقها وكثر أتباعها دخلوا فيها مخربين و محرفين، فأصاب النصرانية بلاء التحريف والتمزق ، فافترقوا إلى فرق و مذاهب، حيث نشأت الكنيسة « الكاثوليكية» والكنيسة «النسطورية» والكنيسة «الأرثوذكسية» وغيرها من الكنائس، وأصبح لكل كنيسة تفسيراتها وإنجيلها ورؤساؤها ورهبانها الذين بید هم بيان مراد الرب – كما يزعمون – ويعمل كل رئيس كنيسة على تجنيد أتباعه ضد الكنائس الأخرى ورميهم بالكفر والضلال، وكان يطلق على كل من خالف رأي الكنيسة «مهرطقا» ووجهت الكنائس كل جهودها لضرب الموحدين المؤمنين وملاحقتهم بشتى التهم ومارسوا ضدهم كل أنواع التنكيل والقتل، وقد شارك اليهود في تأجيج نيران العداوة وإثارة الأحقاد بين أطراف الصراع.
- الديانة الوضعية
إلى جانب الديانتين السماويتين كان العالم يموج بالحركات الوثنية التي عطلت عقل الإنسان وجعلته يتجه إلى عبادة كل شيء غير الله تعالى، فعبدوا النور والظلام والأجرام السماوية والأنهار وصوت الرعد وومیض البرق والأشجار والأحجار والبقر، وجعل الأباطرة أنفسهم آلهة يعبدون من دون الله ، وظهرت دعوات دينية فلسفها أصحابها وأصدروا كتباً جعلوها مقدسة وفيها تعاليم الرب «الوثن» ، وأقيمت المعابد التي امتلأت بالأوثان المنحوتة والمصورة، ومن أبرز الحركات الدينية التي كانت منتشرة في العالم :
- البوذية
وهي فلسفة وضعية انتحلت الصبغة الدينية، أسسها في القرن الخامس قبل میلاد المسيح رجل هندي لقب بـ«بوذا» ، فتزهَّد و تقشف ووضع نظاماً للأخلاق، واعتقد أتباعه أنه ابن الله و المخلص للبشرية، وقد انتشرت البوذية في الهند والصين واليابان وما جاورها.
- الهندوسية
وهي ديانة وثنية ظهرت قبل الميلاد إلا أنها استمرت في التطور ، فأضيف لها بعض التعليم من اليهودية والمسيحية حتى أصبحت خليطاً من العقائد المختلفة، ولا تزال هذه الديانة قائمة حتى اليوم في الهند ولم تنتشر خارجها. وكان هناك مذاهب وحركات دينية كثيرة غير هذه اتسمت جميعها بالوثنية وعبادة غير الله تعالى وصار لها معابد وأديرة وكهان وعلماء يفلسفون محتوياتها، ويدعون لها ويعلمونها للناس، وأثرت تأثيراً كبيراً في حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وهكذا أضحت حضارات الأمم قائمة على الخضوع لغير الله وتعبيد الإنسان لغير خالقه.
وفي وسط هذا الركام الهائل من تغيب العقل البشري والتشوه الأخلاقي والعقائدي كانت الدلائل تشير إلى اقتراب موعد بزوغ النور السرياني الذي سيملأ الآفاق، وينير طريق البشرية إلى خالقها المستحق وحده للعبادة، ويؤكد للإنسانية أن طريقها الصحيح إلى حياة مثلى رشيدة تعمر الكون عمارة فاضلة، لا يمكن أن يكون إلا طبقاً لتعاليم الذي أوجدها وخلقها.
(ثانياً) الحالة السياسية والاقتصادية
كيف كان حال العالم قبل البعثة من الناحية السياسية والاقتصادية؟ ألقت الحالة الدينية المتدهورة بظلالها على العمل السياسي والاقتصادي ، ومن ذلك أنه نسب إلى المسيح أنه قال هذه الكلمات: «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله» ، وهي كلمات اعتبرت تنازلاً عن حق الدين في التدخل في شؤون الحكم وفسرت عملياً بترك شريعة الله التي جاء بها الأنبياء والاحتكام إلى قوانين الرومان الوثنية التي تمجد الإقطاع، وتشجع على امتهان الفقراء وإذلالهم وحرمانهم، ووقفت الكنيسة إثر ذلك تبرر سلوك الأباطرة والإقطاعيين بل وتبارکه، ومع ذلك لم يحل الأمر من نزاع بين الأباطرة والكنيسة، فقد وقعت نزاعات مدمرة بين الطرفين استخدم فيها كل طرف شتى ما يملك من الوسائل للتغلب على الطرف الآخر، والشيء الوحيد الذي تم الاتفاق عليه بين الكنيسة والأباطرة هو محاربة من تبقى من المؤمنين الموحدين بإحراق كتبهم وتحريم اقتنائها واعتبار رجالها خارجين على الدولة والنظام العام ومارقين عن الدين وملحدين يستحقون الإعدام.
أما الجانب الاقتصادي: فقد كان الملوك والأمراء والمقربون ورجال الجيش والكهان ورجال الكنائس هم المستفيدون من أي نشاط اقتصادي ، فالكل يعمل لصالحهم، فالزراعة تساق من ريعها إلى خزائنهم، وأرباح التجارة تجبى إليهم، والطبقات الدنيا التي تشتغل بالحرف تعمل بدون أجر لصالح هذه الطبقة، والناس يعيشون حالة من البؤس والشقاء والحرمان، ويبرز دور آخر لرجال الدين سواء كانوا وثنيين أم يهوداً، أم نصاری، وهو تبرير هذا السلوك، وإرشاد العامة المقهورين إلى المزيد من الاحتمال والقناعة بما هو كائن، وعدم التطلع إلى الخلاص من هذا الوضع الخائق؛ فإن ذلك هو مشيئة الآلهة كما يزعمون.
(ثالثاً) الحالة الاجتماعية
كيف كان حال العالم قبل البعثة من الناحية الاجتماعية؟ ارتبطت الحالة الاجتماعية بكل من الحالة الدينية والسياسية والاقتصادية، وتأثرت بها وبرزت في المجتمع علل كثيرة منها: أن الأسر كانت تتفاوت في مكانتها وفي قدراتها وفي تفكيرها وعقولها، وصُنِّف الناس إلى طبقات عليا وطبقات دنیا، فسلالة الكهان والاباطرة هي الطبقات العليا التي فوق مستوى الناس في عقولهم ونفوسهم. وكان لكل فئة من عامة الناس مهنة لا يمكن أن يتجاوزها، ولا يجوز لأحد أن يتخذ حرفة غير الحرفة التي سار معروفاً بها. أما المرأة فقد امتهن حقها وهمش دورها واعتبرها البعض عبئاً يفكر دائماً في كيفية الخلاص منه، واعتبرها آخرون سلعة للبيع والشراء والمتعة.