لا يمسه إلا المطهرون
لا يمسه إلا المطهرون
المفهوم الشائع لهذه الآية أنه لا يجوز لمس المصحف في
حال الجنابة والحيض والنفاس !!
هذا المفهوم الضيق لهذه الآية العظيمة عجیب وغریب !!
الآية في واد آخر لا علاقة لها بهذا الحكم الفقهي القابل
للأخذ والرد، وإليكم البيان :
لا: حرف نفي.
يمس : فعل مضارع مرفوع …
إذن الجملة خبرية لا طلبية، يعني ليس فيها نھي ولا طلب ولا إنشاء، ومعناها كما يقول جمهور المفسرين أن هذا القرآن في كتاب مکنون لا يمسه إلا الملائكة المطهرون وما تنزلت به الشياطين، وهذا معنی جلیل عظیم تعضده آيات أخرى، وأما حكاية الجنابة والمصحف فهو موضوع فقهي من باب التأدب مع القرآن ولا علاقة له بمفهوم الآية. نحن نعاني من كسل ذهني ولو قرأنا كتب التفسير لما أصبح ذلك المفهوم الفقهي الضيق هو الشائع والسائد. ولكني أضيف إلى ما قاله المفسرون ما يلي : تحدثنا من زاوية نحوية أن الجملة خبرية، الآن نتحدث من زاوية صرفية عن الفرق بين المس واللمس .
الفرق بين المس واللمس
هل من فرق بين المس واللمس ؟ لو استقرأنا الآيات التي ورد فيها المس ومشتقاته، والآيات التي ورد فيها اللمس ومشتقاته لعرفنا الفرق. خلاصة الأمر: المس خاص بالكيان الروحي والنفسي للإنسان، واللمس خاص بالكيان العضوي والجسدي. فالمس الشيطاني مثلا أمر میتافيزيقي غير مرئي. لذلك، يقال للمصاب ممسوس لا ملموس، والذي يضاجع امرأته قد تجاوز مرحلة اللمس والملامسة إلى مرحلة المس. إذ تظهر تفاعلات كيميائية وانفعالات نفسية وهيجان وربما خروج عن نطاق التغطية أثناء الجماع. لذلك قالت مریم “ولم يمسسني بشر” وقال رب العزة “ما لم تمسوهن” وأما آية “لامستم النساء” فقد لا تعني الجماع في قول من قال وهو ما أميل إليه. إذن : المس أعمق من اللمس ويختص بالكيان النفسي والروحي وينعكس أثره على الكيان العضوي سلباً أو إيجاباً. بعكس اللمس البارد الفاتر الذي لا ينفذ إلى عالم الروح كما يصف رب العزة تعامل أهل الكتاب مع كتابهم” تجعلونه قراطيس”. وفي قوله تعالى : “ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبین”. المسألة إذن تتلخص في ثنائية لمس وقرطاس لا مس وكتاب مكنون. لقد جعلوه قراطيس .. مجرد قراطيس .. لم يمسوه بل يحومون حول اللمس. لم ينفذوا إلى أغواره بل توقفوا عند زخرفه لأن كتاب الله ” لا يمسه إلا المطهرون ” . إذن يمتد لنا أفق آخر لمفهوم الآية وهو أن هذا القرآن لا يستطيع أن يتماهى به ويمسه إلا المطهرون … المطهرون من الكبر والنفاق والرياء وكل أمراض القلوب. الطهارة هنا تعني في المقام الأول طهارة القلوب هذا القرآن لا يفتح کنوزه وجواهره إلا للقلوب الطاهرة. وكما أن هناك مسا شیطانيا تظهر آثاره في تخبط الممسوس من المس. فهناك مس قرآني ينعكس في قسمات الوجه نورا ووضاءة، وفي السلوك استقامة واتزانا، وفي القول حكمة وسدادا.
” لا يمسه إلا المطهرون “
كم من بروفيسور حاول أن يستكنه مجاهيل القرآن ويصل إلى كنوزه فلم يصل. المسألة ليست مجرد علم وشهادة وعقل. هناك أمر آخر لا بد منه يتعلق بطهارة القلب وشفافية الروح للوصول إلى حالة المس الإيجابي
” لا يمسه إلا المطهرون “
لو تأملنا في سياق الآيات لوجدنا ترابطا واتساقا بين هذه الآية وما قبلها “فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم * إنه لقرآن کریم * في كتاب مكنون *
” لا يمسه إلا المطهرون”.
هناك علاقة بين القسم وجوابه، فكما أن مواقع النجوم بعيدة لا نستطيع المساس بها فكذلك معاني القرآن عميقة الأغوار بعيدة المنال لا نستطيع المساس بها إلا إذا کنا مطهرین. معاني القرآن قريبة للمطهرين بقدر بعدها عن سواهم. وقطوفها دانية بقدر ارتفاعها وسموقها.
” لا يمسه إلا المطهرون “
هذا القسم العظيم بمواقع النجوم لا يمكن أن يكون جوابه ذلك الحكم الفقهي الخاص بلمس المصحف .. بل جوابه عظیم عميق الدلالة وتبقى مسألة لمس المصحف ثانوية يمكن النقاش حولها من باب التأدب مع المصحف.
” لا يمسه إلا المطهرون “
والذي يقول بأن الجملة إنشائية جاءت في سياق الخبر على غرار “والوالدات يرضعن” فلا عبرة لكلامه لما ذكرناه آنفا من وجود علاقة بين القسم العظيم وجوابه العظيم. ثم لا يمكن أن نجعل من الاستثناء قاعدة نقيس عليها ونقصي القاعدة الأساس خارجا. الإنشاء في صورة الخبر والعكس أمر استثنائي نادر في لغة العرب وله قرائن يمكننا تمییزه من خلالها.
أخيراً
أنت يا من تقرأ ختمتين وثلاثا وعشرا في شهر رمضان الكريم شهر القرآن أو في باقي شهور السنة .. هلا تريثت قليلا وسألت نفسك : لماذا لم أتأثر .. لماذا لم أستقم .. لماذا لم أفهم ..؟؟ الجواب : لأنك لم تمس القرآن .. لم تحظ بمس قرآني ينعكس على قسمات وجهك نورا ووضاءة .. وعلى كلماتك حكمة وسدادا .. وعلى سلوكك استقامة واتزانا . لأنك تحتاج قليلا إلى فرمتة قلبك وتطهيره لاستقبال هذا الفيض الإلهي الطاهر .