الجرح والتعديل ( أهميته ، شروطه ، بما يثبت ، ألفاظه )

جهد المسلمين في خدمة الحديث النبوي
أدرك المسلمون أهمية السنة النبوية فحرصوا على حفظها وسلامة نقلها ، ويمكن أن نلاحظ هذا الحرص من خلال ما يأتي :
أولاً : حرص الصحابة على متابعة الرسول ﷺ في أقواله وأفعاله والتناوب على ملازمته حتى لا يفوتهم شيء من أحاديثه وسنته.
ثانياً : بعد أن انتقل الرسول ﷺ إلى الرفيق الأعلى حرص المسلمون على رواية الأحاديث وجمعها وتدوينها، فقد كان العالِم يسافر إلى البلاد البعيدة إذا ما سمع أن أحداً عنده حديث واحد من أحاديث رسول الله ﷺ.
ثالثاً : عند جمع العلماء للحديث اشترطوا الإسناد* ، فابتكروا بذلك منهجاً علمياً دقيقاً للتثبت من النصوص المروية ، وأصبح فناً من العلوم تفردت به هذه الأمة عن غيرها من الأمم.*يقصد بالسند سلسلة الرجال الناقلين للحديث الشريف.
إقرأ أيضاً: مفهوم الاجتهاد وأهميتة ومجالاته و أهم شروط المجتهد.
معنى الجرح والتعديل
لم يقف جهد المسلمين في خدمة الحديث عند جمعه وتدوينه ، واشتراط إسناده ، بل أضافوا إلى ذلك جهوداً عظيمة أخرى تتمثل في تتبع أحوال من يروون عنه حديث رسول الله ﷺ ، فما كانوا ليقبلوا حديثا ما لم يكونوا قد أخضعوا رواته للنقد والتمحيص وفق معايير دقيقة حتى لا يدخل في السنة النبوية ما ليس منها ، وينسب إلى الرسول ﷺ ما لم يقله أو يفعله أو يقره ، وهو ما عرف ب( علم الجرح والتعديل ).
ومعنى الجرح عند علماء الحديث الطعن في عدالة راوي الحديث وضبطه كوصفه بالفسق ، أو بكثرة الأوهام. أما معنى التعديل فهو وصف الراوي بما يدل على عدالته وضبطه ، مثل وصفه بأنه ثقة أو حافظ ، أو حجة أو متقن ، أو بأي لفظ يدل على عدالته وضبطه.
أهمية علم الجرح والتعديل
عرفنا فيما سبق أن التدوين الرسمي للحديث بدأ في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
وقد تميزت هذه الفترة بوجود الفرق الإسلامية التي حرصت على تأييد وجهة نظرها بالتقول على رسول الله ﷺ ونسبت إلى رسول الله أحاديث مكذوبة ، واختلط الصحيح منها بالمكذوب عند الناس ، وأدرك العلماء أن من واجبهم أن يبينوا الصحيح من كلام رسول الله ﷺ مما هو موضوع من قبل الوضاعين.
مما أدى ذلك إلى نشوء علم الجرح والتعديل لتحقيق غاية كبرى وهي تنقية الأحاديث النبوية ، وبيان الصحيح منها والضعيف والمكذوب.
ولتحقيق هذه الغاية وضع العلماء مجموعة من القواعد والضوابط ليتعرفوا من خلالها على أحوال الراوي ، فلا يقبلون حديثاً إلا بعد الاستيثاق من كل راوٍ من الرواة الذين ورد ذكرهم في السند ، فيسألون عنه … عن عقله ودينه وخلقه وسيرته ، وعن شيوخه وتلامذته ، فمن اشتبهوا فيه ردوا حديثه ، ومن قام الدليل على صدقه وحفظه وعدالته وضبطه قبلوا حديثه ورووه عنه .
ولا يدخل في باب الجرح والتعديل وصف شخص بما يدل على أنه صادق أو كاذب ؛ وبأنه حافظ أو كثير الأوهام ؛ ما لم يكن الهدف من هذا الوصف قبول روايته للحديث النبوي أو رفضها.
شروط الجرح والتعديل
ما هي الشروط الواجب توافرها فيمن يقوم بالجرح والتعديل ؟
اشترط العلماء فيمن يقوم بالجرح والتعديل مجموعة من الشروط ، حتى يكون حكمه منصفاً مبيناً لحقيقة الراوي وكاشفاً عن حاله ، وأهم هذه الشروط ما يأتي :
- أن يتصف بالعلم والصدق والتقوى والورع ؛ لأنه إن لم يكن بهذه الصفات عُدَّ غير كفء لأن يكون حاكماً على غيره بأحكام تعطيه صفات العدالة والضبط ، أو تسلبها منه .
- يجب ان يكون عالماً بأسباب الجرح والتعديل ، أي يكون عالماً بأن هذا الأمر يقدح في الراوي فيكون سبباً في سلبه صفة العدالة أو الضبط ، إذ بغير تحقق هذا الشرط ربما قام شخص بجرح راوٍ أو تعديله بوصف ليس من أسباب الجرح أو التعديل ؛ أو يعد غير كاف للحكم عليه بالتعديل أو الجرح .
- ان يكون عالماً باللغة العربية ؛ عارفاً بتراكيبها واستخداماتها وتصاريفها ، معرفة تكسبه القدرة على استخدام اللفظ المناسب الذي يصف حال الراوي وصفاً دقيقاً ، فلا يضع اللفظ لغير معناه .
بما يثبت الجرح والتعديل ؟
وضع علماء الحديث ميزاناً دقيقاً في قبول تعديل الرواة أو جرحهم ، ولذلك فإن جرح راوٍ أو تعديله يثبت بما يأتي:
- أولاً : الشهرة والشيوع : فمن اشتهر بعدالته وضبطه بين أهل الحديث ، وشاع الثناء عليه كان ذلك بمثابة الشهادة بعدالته ، لأن الشهرة أقوى من شهادة الواحد والاثنين ، ومن أمثلة ذلك ما شاع عن زيد بن علي ومالك ، وسفيان الثوري ، وسفيان بن عيينة ، وأمثالهم ، فهؤلاء لا يسأل عن عدالتهم ، لما اشتهروا به من العدالة والضبط شهرة تغني عن السؤال عنهم . وحكم الجرح كالتعديل ، فمن اشتهر بفسقة وكذبه وتدليسه بين أهل الحديث ، وشاع تجريح الناس له ؛ كان ذلك بمثابة الشهادة بجرحه.
- ثانياً : أن ينص على عدالة الراوي عالم ثقة أو أكثر ، قولاً أو كتابة .
- ثالثاً : أن ينص على جرح الراوي عالم ثقة أو أكثر ، قولاً أو كتابة ، مع بيان سبب الجرح ، أما إذا لم يذكر السبب ؛ فلا يثبت التجريح ، لأنه ربما يكون السبب الذي جرح به الراوي غير كافٍ في التجريح عند غيره . وقد وضع العلماء هذا الشرط في الجرح دون التعديل ، لأن ذكر سبب واحد يقدح في عدالة الراوي يكون كافياً لتجريحه ، ولا يشترط لذلك الإحاطة بباقي الصفات ، ولو اشترط ذلك في التعديل لكان لزاما على المعدل أن يستقصي كل أسباب التعديل وهذا غير ممكن.
- رابعاً : تقديم الجرح على التعديل : عند تعارض الجرح والتعديل يقدم الجرح على التعديل ، لأن المعدِّل يخبر عما ظهر له من أحوال الراوي ، ولدى الجارح زيادة علم خفي على المعدِّل ، فيقدم قول المُجَرِّح ، ويثبت بذلك جرح الراوي ، ويستثنى من هذا الأمر حالتان هما :
- الحالة الأولى، أن ينفي المعدِّل عن الراوي السبب الذي جرح من أجله ، ولا يثبت هذا النفي إلا بدليل صحيح .
- الحالة الثانية، أن يبين المعدِّل أن الراوي قد تاب مما جرح به ، ما لم يكن سبب تجريحه الكذب على رسول الله ﷺ ، لأن من كذب على رسول الله لا تقبل روايته وإن تاب.
ألفاظ الجرح والتعديل
اصطلح العلماء على ألفاظ يصفون بها الرواة ليميزوا بها بين مراتب أحاديثهم من حيث القبول والرد ، ومن ذلك ما يأتي :
- ألفاظ التوثيق : استخدم العلماء ألفاظاً قصدوا منها أن تدل على ترتيب الرواة حسب أفضلية كل راوٍ في عدالته وضبطه ، ومن ذلك قولهم : فلان أوثق الناس ، وفلان ثقه ، أو فلان حافظ ، أو فلان متقن ، أو فلان لا بأس به ، أو صدوق له أوهام ، أو أرجو أنه لا بأس به ، أو صالح الحديث . . . وغير ذلك كثير مما تعارف عليه العلماء في التمييز بين رواة الحديث وترتيبهم حسب أفضلية كل راوٍ من حيث عدالته وضبطه.
- ألفاظ الجرح : كما استخدم العلماء ألفاظاً تدل على ترتيب الرواة حسب بعدهم عن العدالة بادئين بأشد الرواة جرحاً في عدالته وضبطه ، وقد سلسلوا هذه المراتب ومن ذلك قولهم : أكذب الناس ، وضَّاع أو كذَّاب ، متهم بالكذب ، متهم بالوضع ، ضعيف جداً ، لا يحتج به ، فيه مقال ، فيه ضعف ، ليس بالقوي ، ليس بحجه ، سيىء الحفظ ، ليس بالحافظ . . . وغير ذلك كثير مما تعارف عليه العلماء في التمييز بين رواة الحديث وترتيبهم حسب انعدام أو ضعف أو قصور كل راوٍ في عدالته وضبط